جاري التحميل...

اليوم الأخير في حياة الدكتور برهان زريق

قبل رحيله يرحمه الله بأربع وعشرين وساعة وعند الثانية من بعد ظهر يوم السبت العاشر من شهر تشرين الأول ،استضاف في تراس بيته الذي طالما أحبه وعشق الجلوس فيه، استضاف ثلة من أصدقائه وهم الباحث الاستاذ ياسر صاري والمحامي الاستاذ محمد رعدون والمحامي الاستاذ يحيى زكريا ولا يغيب عن تلك المجالس صديقه الصدوق الذي لازمه دون انقطاع ما يزيد عن نصف قرن إنه الرياضي السابق الذي عرفته ملاعب كرة القدم في نهايات القرن الماضي محمود مطرجي (ابو العبد).

يحدثني الاستاذ ياسر صاري كيف كان اللقاء غنيا بالحوار والنقاش ولعل أهم ما دار كان حول مبدأ الشورى في الاسلام وما أوصى به الفاروق عمر بن الخطاب عند لحظات موته من تسمية ست من الصحابة رضوان الله عليهم ليقوموا على أمر اختيار الخلف من بعده، وكيف تبادل هو والوالد الرأي حتى حسم بما وجدوه مكتوبا في صحيح البخاري.

يقول لي الاستاذ محمد رعدون لقد كان ملفتا للنظر أن ينهض ابن الثانية والثمانين والذي يعاني من صعوبة في المشي وصعوبة في استعمال يده اليمنى في الدخول إلى غرفته وإحضار عدد من أجزاء صحيح البخاري يحملها بكلتا يديه، ليضع المتحاورين يدهم على حقيقة الأمر.
انفض اللقاء عند السادسة قبيل المغرب, وحضرت إليه على اتفاق مسبق وعاتبني بكل رقة على تأخيري لنذهب سوية إلى قرب جامع سيدنا جعفر الصادق لنقدم العزاء إلى واحد من أصدقائه المقربين، إنه الاستاذ المحامي نبيه بدر، ذهب ليقدم له العزاء في أول أيام العزاء في وفاة زوجته، وعندما نزلنا من سيارة الأجرة بادر الاستاذ نبيه بعناقه واختلطت الدموع بالابتسامات والترحيب والتعزية، فقد كان لقاءا بعد غياب دام عدة سنوات.

بادر الوالد يرحمه الله بالحديث عن مؤلفاته وأنه سوف يقدم له ثلاث من مؤلفاته الحديثة، وتحدث الاستاذ نبيه عن عمله في دبي، واختلط الكلام بأصوات أحد الشيوخ وانقطع ثم تواصل مع توافد المعزين، بعدها التفت إلي الاستاذ نبيه قائلا: عمو سامر أرجو أن تحضر إلي يوم الثلاثاء لتأخذني إلى الوالد كي التقي به مطولا بعد أن أكون قد انتهيت من أعمال العزاء وواجباته، فوعدته خيرا وغادرنا مودعين.
أوصلته إلى منزله وسألته إن كان محتاجا لشيء وسلمت عليه وكانت المرة الأخيرة التي أراه حيا، حدثته ليلا عبر الهاتف مازحني فرددت عليه ممازحا، وكانت تلك آخر مرة أحدثه فيها.

استيقظ صباح يوم الأحد وذهب إلى مكانه المعتاد في التراس ليحمل الكتاب وأمامه الورق وآخر ما كان يكتب ويؤلف، وقد أخبرنا عدد من الجيران أنهم شاهدوه في مجلسه هذا وبيده ما يقرأ، عند الساعة الثانية عشرة ظهرا.
دخل ليأخذ حمامه اليومي وكان أمر الله، لكن الله (وهو أعلم بما يريد) أراد لهذا العبد خيرا ، في الواحدة والنصف دخل أخي عصام في حضور استثنائي وألقى التحية على والده عدة مرات ، لكن الوالد لم يرد كما اعتاد.
كان على موعد مع المحامي الأستاذ خالد عنتابلي لإجراء تحكيم قانوني فقد كان يكلف بعد تقاعده يرحمه الله من مهنة المحاماة بالتحكيم القانوني خصوصاً في القضايا الشرعية، انتظروه وعندما طال الانتظار ذهب أحد الزملاء للبيت للاستفسار واستبيان سبب التأخير، وجاء الرد بأن ما منعه من الوفاء بآخر موعد على الأرض، هو موعد آخر كان بانتظاره أبرمه الله مع بعض ملائكة السماء.

ولعل من الجدير ذكره في ختام سرد تفاصيل اليوم الأخير، وقفة الوفاء من صديقه وأخيه المحامي الاستاذ نبيه بدر الذي اتصلت به واعتذرت له عن موعد يوم الثلاثاء وقلت له : عمو الوالد توفاه الله، بكى الصديق وترك عزاء زوجته والمعزين ليتوجه إلى جامع سيدنا عمر بن الخطاب ليقبل النعش وليصلي صلاة المغرب ثم صلاة الجنازة، ثم يلتقط الميكرفون مني بعد أن صليت بالناس صلاة الجنازة، ونحن جميعا في عجالة من أمرنا وقد حل الليل، ليلقي كلمة يرثي فيها صاحبه وصديق عمره مثنيا عليه، معددا مناقبه، ثم يقدم للجامع هدية خضراء مطرزة بالآيات القرآنية وقفاً منه للجامع.
ولم تكن مصادفة أبدا أن يدفن في مكان يبعد أمتارا عن قبر زوجته وحبيبته، في مكان تعز فيه أماكن الدفن، لكن الله قد قضى أمرا صار مفعولا، وليطوي التراب جسدا أصبحت روحه عند بارئها.