هذه الطبعة المزيدة والمعدلة للكتاب الذي نشر في عامي 1996 و2007 وهو آخر الكتب التي نشرت في حياته يرحمه الله

الوعي بالصحيفة زعم أرنست رينان أن الإسلام خيمة وقبيلة، وهذا هو عين رأي هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأسبق المتضمن أننا مازلنا خارج الثورة النيوتونية "ثورة العلم" وعاجزين عن الدخول إليها. لن نتهم مبدئياً هذه الآراء بالهوس والهزاء، وأنها تخفي مشروعاً عدائياً لأمتنا يستهدف طمس هويتها وحضارتها، وتسفيه عطائها ودورها الإنساني، وفي الوقت نفسه لا نريد أن ندخل في النفق المظلم لرطانات الصراع الإيديولوجي، وحسبنا –رداً على ذلك، وخيراً للأمة والحقيقة– أن نحمل المبضع العلمي لنشرح جثة مظهر واحد من مظاهر حضارتنا وتألقنا، ألا وهو الصحيفة، تاركين للقارئ تقدير خطأ هذه المقولات وخطرها ونظرتها التبسيطية الاختزالية العدائية. على هذا الأساس ندلل بادئ ذي بدء بأن المشروع الذي حملته الصحيفة أبعد مايكون عن الخيمة والقبيلة، بل إنه أعظم مغامرة للروح الإنسانية استطاعت أن تؤطر وتحيط سياسياً بأعظم تجربة للشرط البشري. ونحن لا ننطلق في ذلك من مقولة إن تلك الوثيقة فعلاً نبوياً مغموراً بتألقات الوحي، فذلك مصادرة على المطلوب، وحجة بذاتيه "دليل يقدمه المرء لذاته". وعلى هذا الأساس فالأصوب معانقة ماهية الطبيعة الذاتية لتلك الوثيقة التي وصفت بأنها أول دستور لحقوق الإنسان، وأنها لا تقدر بثمن. لقد قارنا الصحيفة بالوثائق الذائعة الصيت: وثيقة "جو" في الصين، "مانوا" في الهند، "حمورابي" في بابل "الألواح الاثني عشرية" في روما، واتضح لنا أن الوثائق المذكورة لا ترقى –كالصحيفة– إلى مستوى العمل الدستوري، لسبب بسيط هو أنها مجرد قوانين عادية تنظم العلاقات بين الأفراد دون أن تضع ضابط لتقليد السلطة وممارستها، ولترسيخ حقوق الفرد وحرياته العامة. وتدليلاً بالسبق الزمني للصحيفة أكدنا أن الحركة الدستورية المعاصرة لم تتضح إلا في القرن التاسع عشر "القرن الدستوري"، وما قبل ذلك لم نكن إلا حيال إرهاصات دستورية بسيطة: العهد الأعظم "الماجنا كارتا" الصادر عام 1215م في انكلترا –تأكيد العهود الصادر في انكلترا عام 1297م الذي حظر على الملك فرض الضرائب– ملتمس الحقوق الصادر في انكلترا عام 1928م الذي أكد بعض الحريات التقليدية. لقد رجحنا صدور الصحيفة بعد معركة بدر الكبرى، حيث تعملقت وتجوهرت ثقة المسلمين بأنفسهم، وأدركوا أنهم على منعطف تاريخي كبير سيدقون فيه أبواب التاريخ، ويمتلكون ناصيته، ولهذا فالواجب يدعوهم إلى انجاز الذروة القانونية لتأطير مبادراتهم والإحاطة بالحدث التاريخي الذي ينتظرهم، وبعد أن أبدعوا الذروة الأخلاقية متمثلة في تجربة المؤاخاة. لقد عرضنا لموثوقية الصحيفة وصحة ثبوتها التاريخي على يد ثقات كتب التاريخ إضافة إلى صحيحي مسلم والبخاري، هذا فضلاً عن ورودها في الموارد التاريخية الحديثة، وفي مصادر فقه الشيعة، وهذا إن دل، فإنما يدل على أن تراثنا ليس منقسماً عمودياً على ذاته، وأن وعينا المعاصر المطابق يجب أن يتخطى زمانية الفرقة الناجية ليعيش زمانية لاهوت العمل، لاهوت التحرير، لاهوت الحرية، لاهوت الوطن الناجي، لاسيما أن جميع هذه الأمة في سفينة واحدة، وأن أي خرق فيها سيؤدي إلى غرق الجميع، وعلينا بالتالي أن ندافع عن الأمة التي اعتراها التفتيت، وأنهكها الضياع، وتوالت عليها الهزائم وانتابها العجز، وعمها القعود. لقد أثبتنا أن الصحيفة عمل سياسي انطوى على بعض المعايير الأخلاقية، وبذلك يتهافت الحل العلماني العربي الذي يدعي أن الدين الإسلامي مطلق خير، وأنه ليس هناك ارتباط ماهوي مفهومي عقيدي بين الإسلام والسياسة، بل إن هذا الارتباط تاريخي عرضي فرضه انتقال الرسول إلى المدينة "مقولة الدكتور عادل ضاهر". لقد عرجنا على نقطة هامة هي هدرنا التاريخي للمبادئ الفذة التي انطوت عليها الصحيفة، وهو هدر ظلامي انكفائي غيبي غير عقلاني، تجلى في الأمور الآتية: 1. حلول العقل السياسي الشفوي محل العقل الكتابي الراشد الذي رسخته الصحيفة، وهو حلول مدفوع باعتبارات سياسية مستبدة، لاسيما أن الوضوح هو ركن القاعدة الخلقية وأساس القاعدة القانونية التي تعنى بضبط العلائق البشرية وتحديد مضامينها بدقة منعاً للالتباس وبالتالي للظلم، هذا فضلاً عن النظرية الفقهية في الإسلام نرنو إلى إبراز الوعي الدستوري، ثم إبراز الركن الشكلي والإجرائي في الدستور، كما فعلته الصحيفة في تدوين التجربة ونشرها. 2. جنوح الفقه الإسلامي إلى تحديد أهل الحل والعقد على أساس فقهي لا سياسي والاكتفاء بفقيه واحد لتحقيق الشرط العددي اللازم لتشكيل هيئة الحل والعقد التي تختار الإمام "الباقلاني"، خلافاً للصحيفة التي أقامت تلك الهيئة التأسيسية على شرط سياسي أولاً وشرط عددي كمي هو تمثيل الفاعلين الاجتماعيين من أجل تحقيق الشوكة. 3. جنوح التاريخ السياسي العربي الإسلامي في القرون الوسطى إلى عدم تأسيس السلطة على الآلية القانونية، خلافاً لأحكام الصحيفة التي أقامت سلطة الرسول على هذا الأساس رغم ما يتمتع به من مكانة نبوية ومدنية. 4. التحول الذي انتاب البيعة الكبرى ليحولها إلى مظهر شكلي كاريكاتوري لاختيار الخليفة، في حين أن الصحيفة طرحت صيغة إقرار الدستور والتصديق عليه من خلال إرادة كاسحة حقيقية وفاعلة أشبه ما تكون بالاستفتاء الشعبي على الدستور referendum. 5. الفهم الموسع للحاكمية التشريعية، على أنها حاكمية إلهية لا تنطوي على أية سيادة تشريعية بشرية: في حين أن الصحيفة –وهي التعبير عن إرادة مدنية سياسية بشرية– أصدرت أحكاماً تشريعية واضحة كالمعاقلة وفداء الأسرى، لابل إنها في ذاتها عمل تشريعي دستوري قام على الإرادة الإنسانية. 6. استعجال بعض مظاهر الإسلام السياسي المعاصر تطبيق الشريعة الإسلامية دون تحقيق الشروط التي افترضتها الصحيفة ألا وهي: شرط الحامل الاجتماعي، المجتمع المدني الإسلامي اللازم لتحقيق الشوكة المعبر عنها بأغلبية الشعب. 7. تفسير مفهوم الذمة على أساس ديني في حين أنه شرط سياسي يقوم على قاعدة الشرع، واستطراداً فالأحكام الفقهية لا يشترط بها الشرط العددي، وبيان ذلك أن السياسة الشرعية للصحيفة هي التي تعاملت مع اليهود، وأدمجتهم مع أمة المؤمنين من خلال آلية المفاوضة والتوازن والمصلحة العليا، وفي الوقت نفسه فقد أدخلت اليهود إطار الشورى مع المسلمين، خلافاً للبلورات المتأخرة لعقد الذمة التي قامت على الإلحاق من خلال نظرة دينية فقهية صرفة لا ترقى إلى مستوى المشاركة السياسية، ولا تعبر عن إرادة الفاعلين الاجتماعيين، ولا تقيم وزناً لتوازن القوى، وبذلك فالعقل السياسي الإسلامي في القرون الوسطى كان عقلاً إنزلاقياً انحدر عن مستوى العقل السياسي للصحيفة. 8. تعامل الصحيفة مع القبيلة والأمة كبنى وسيطة تخضع وتوظف لصالح الدولة، خلافاً لبعض مظاهر الإسلام السياسي ذي المواقف المعادية لتطلعات الأمة العربية، وهي تطلعات شعبية وإنسانية وبعيدة عن الاستكبار والشوفونية. 9. لم تتعامل الصحيفة مع مقولة تسييس المتعال "الحق الإلهي للسلطة" ذلك المبدأ الذي سيطر على أوروبا في القرون الوسطى، وبالعكس فقد أخذت بمدنية السلطة، أي أصلها المدني الملزم، وهو ما يتضح من قول الصحيفة "بين المؤمنين من قريش وأهل يثرب"، والأمر نفسه بالنسبة لمبدأ التعالي في السلطة، فالمتصفح لنصوص الصحيفة يجد أنها تعرضت لسلطات الرسول كسلطة مدنية صرفة، بل إن هذه السلطة وردت بلفظة محمد "على سبيل التنكير"، دون أن تضفي عليها سمة غير مدنية، ولا حاجة للتدليل بأن رياح السياسة اتجهت إلى صيغ سياسية أقرب ما تكون إلى الخط الإلهي للسلطة، هكذا سمعنا معاوية بن أبي سفيان يتكلم عن نفسه بأنه الزمان، وأنه خازن الله على أمواله، كما سمعنا عن أبي جعفر المنصور بأنه ظل الله على الأرض. لقد انطلق دستور المدينة المنورة في آفاق واسعة مستشرفاً مستشفاً الشرط البشري، وتعلية الإنسان وتعزيز كرامته، ولعل أهم ما في ذلك تحقيق المواطنة الكاملة على أساس مساواة المؤمنين فيما بينهم، ثم مساواتهم مع اليهود. وفي إطار فكرة المواطنة والتعامل المدني معها تأثيراً وتأثراً، فقد تعاملت مع الأرض كإقليم أي كمحل ووعاء للعديد من الفواعل القانونية والسياسية، وبالعكس فقد نفرت من فكرة شخصية القوانين، ورفضت أن تعامل الذين يدخلون في الإسلام، وهم خارج يثرب، كما تعامل مواطني هذه المدينة. لقد أدركت الصحيفة جدلية الخاص والعام بالنسبة للمؤمنين ومن تبعهم ولحق بهم، وعلى ضوء ذلك كان لا بد من رسم دائرة للنظام العام الذي هو الحقل المشترك بين اليهود والمسلمين، وفيما هو خارج هذا الحقل أعطت لليهود كامل خصوصيتهم السياسية والدينية. لقد قطعت الصحيفة أشواطاً واسعة في طريق الحقوق الشخصية والحريات العامة، إضافة إلى مبادئ الحكم وأصوله. هكذا نظمت الصحيفة الحقوق الآتية: • الحقوق الاجتماعية • حق الملكية • الحريات المعنوية "الدينية" • حق الأمن • حق التنقل • الحقوق السياسية أما لجهة أصول الحكم، فقد تحدثت عن الأصول الآتية: • أصل العدل • أصل الشورى • أصل الحرية • أصل التضامن ويمكن القول إن أهم ما أنجزته الصحيفة هو تحقيق فكرة التوازن الدقيق بين التقدم والاستقرار. وفي نظرنا إن تجربة المؤاخاة هي تجربة أخلاقية اعتمدت التقدم أساساً للاستقرار، لذلك فقد وجد الرسول وصحبه ضرورة تلطيف حدة هذه التجربة، وترويضها وإعطائها جرعة من الواقع من خلال تجربة الصحيفة السياسية التي اعتمدت التقدم أساساً للاستقرار، لكنها طعمت ذلك ببعض أواليات الإستقرار ممثلاً ذلك في تلك المشاركة الاجتماعية مع المؤلفة قلوبهم، ومع المنافقين "جماعة عبد الله بن أبي"، أو في تلك الصيغة التي بلورتها مع اليهود. ومع ذلك، فالمؤكد أن التقدم هو الأساس العام، بدليل عملية الدمج الكامل –في بناء مرصوص– للمؤمنين، دمجاً يقوم على المساواة والاتحاد والموالاة، وغير ذلك. وفي نظرنا إن هذه الديناميات والنواهض والفعاليات الكبرى التي استنبطتها الصحيفة، تجعلنا نثمنها بأنها المشروعية العليا للعقل السياسي العربي الإسلامي، وإن أية شرعية أخرى –بما في ذلك الشرعية الراشدية– لا ترقى إلى مستوى سقف شرعية الصحيفة. وإذا كان لنا-ومع رجال السياسة والقانون– أن نفرق بين الشرعية validite والحيوية vitalite أمكننا القول إن هناك انخفاضاً في التوتر الروحي للمرحلة الراشدية، إذا قيس الأمر بالمرحلة التدشينية النبوية، وقد انعكس ذلك على مسألة الإيلاف والشراكة الاجتماعية، ومسألة التقدم والاستقرار. ويمكن القول إن الاستقرار قد أطل برأسه في سقيفة بني ساعده ممثلاً بالأنصار، ولكن حيوية الجماعة المؤمنة، وذكرى المرحلة التدشينية النبوية حسمت الأمر لصالح التقدم "المهاجرين"، مع التنويه بأنه إذا كان ما يبرر أولوية المهاجرة كرمز للتقدم، فنحن لا نجد سنداً لذلك في اللاحقة، وبالتالي لم يعد شرط القرشية يمثل التقدم، ويكون شرطاً للخلافة، كما نجده في زمانية الأحكام السلطانية على سبيل المثال. وفي نظرنا إنه كان من الأفضل ترسيخ أقدام المشاركة الاجتماعية دون الاقتصار على إسناد السلطة وتقليدها بالنسبة لرئيس الدولة، بل باحترام وإبراز مؤسسات سياسية أخرى تسند للشركاء "الأنصار أو غيرهم" بعض مظاهر السلطة، وبذلك فإن صيغة منا وزير، ومنكم أمير التي ظهرت في السقيفة صحيحة من حيث المبدأ، وتعبر عن توسيع رقعة المشاركة في القرار السياسي، وإن كان العقل السياسي العربي الإسلامي آنذاك لم يكن ليستوعب روح هذه الدينامية، ولم يكن يعنى إلا بمظهر واحد للسلطة هو تقليدها، مما أتاح الفرصة لبذر بذرة التركيز السياسي. والدليل على ذلك أن المجتمع الإسلامي توسع مسطحاً وعمقاً، حيث دخل الناس في دين الله أفواجاً جماعات وأقطاراً وأفراداً، ومع ذلك لم نشهد عقلية الصحفية تتحرك لتنجز صيغاً من المشاركة تتناسب مع الأوضاع المستجدة، مع العلم أن ظروف الصحيفة لم تكن أكثر معاناة من الظروف الجديدة. نحن لا ننكر أن ظهور صيغ للتعامل مع الغير في التاريخ العربي الإسلامي، كما يتضح من صيغة دمج الصابئة والمجوس والبربر، ومعاملتهم معاملة أهل الكتاب، في حين أن النص القرآن لم يتكلم عن أهل الكتاب إلا بالنسبة لليهود والنصارى. والأمر نفسه بالنسبة لنظرية أهل الذمة التي تبلورت في العصرين الأموي والعباسي، والتي لاترقى في نظرنا إلى مستوى صيغة الصحيفة بالنسبة للمشاركة، ولكن صيغة الدمج هي التي سيطرت على العقل السياسي الإسلامي سواء بالنسبة للغير أم بالنسبة للمسلمين، لاسيما بظهور نظام السلطة العضوض، وبذلك نسفت نهائياً تجربة الصحيفة، وتناستها النفوس، ولم يبقَ منها إلا الأصداء خافتة في بعض الكتب الصفراء، والمطلوب من الفكر السياسي الإسلامي إحياء قيم هذه التجربة الفذة في مشروعنا النهضوي، وغرسها في وعينا وثقافتنا الوطنية والقومية من أجل بناء وتأسيس مجتمع مدني، مجتمع الخيارات والتنوع والحراك الاجتماعي والمشاركة والمواطنة الحقة، بحيث تتفتح كل زهرة، وليتنافس المتنافسون من أجل هذه الأمة.